نسخة تجريبية

spot_img

مختارات

لماذا العربية ليست لغة الاقتصاد اليوم؟

مثلت التجارة شكلاً من أشكال التواصل البشري منذ فجر التاريخ، ولعلها تشترك مع اللغة في نشأتها وارتقائها، إذ كانت اللغة وسيلة إقناع المشترين والتفاوض مع الباعة والتفاهم على نقل البضائع ورصد الأرباح والخسائر. وعلى الرغم من التاريخ الطويل للتجارة، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت نموًا منقطع النظير في مجال الاقتصاد وعلومه، وتعالقًا أكبر مع حقول معرفية تطبيقية جديدة مثل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وعلوم الطاقة وغيرها، وتحضر اللغة في مشهد المال والأعمال بوصفها نظام اتصال مهني منطوق ومكتوب يتسم بالوضوح والمباشرة ويضم مصطلحات محددةً متفقًا عليها بين المشتغلين في المجال.

ونجد في السنوات الأخيرة تردد مصطلحات جديدة في عوالم الاقتصاد والتقنية، مثل البلوك تشين (Blockchain) والاقتصاد الرقمي (Digital economy) وغيرها، والواقع أن التكاثر المستمر للمصطلحات هو الطريقة التي ترصد من خلالها اللغة التطور الحاصل في مجال معرفي ما، وهذا يضع اللغة العربية أمام تحدي المواكبة في عصر تتضاعف في المعارف يوميًّا، كما يطرح هذا تساؤلات عن مدى حضور اللغة العربية اليوم في المشهد الاقتصادي والتقني العالمي، وعن إمكانية استعمالها في المفاوضات والعقود وحتى في تدريس الاقتصاد والأعمال وتفعيلها في الإعلام الاقتصادي.

لماذا تغيب اللغة عن هذا القطاع؟

تشير الوقائع والدراسات إلى سيطرة اللغة الإنجليزية (والإنجليزية الأمريكية خاصة) على المشهد الاقتصادي العالمي، وذلك بوصفها اللغة التي تنتج فيها المعرفة الاقتصادية، واللغة التي تدار من خلالها المفاوضات وتبرم بها العقود، وهي لغة التدريس الأساسية في كليات إدارة الأعمال حول العالم لا في الوطن العربي دون غيره.

وفي ظل غياب مواكبة عربية مصطلحية لما يستجد في العلوم الاقتصادية، كانت تعلم اللغة الانجليزية واستعمالها الوسيلة التي يتخطى بها العرب المشتغلون في حقل الاقتصاد والأعمال مشكلة فوضى المصطلح الاقتصادي العربي، لا سيما وأن وجود مصطلحات موحدة ذات دلالات محددة خاصةً في العقود الرسمية هو ضرورة ملحة لا يمكن تجاوزها في عالم الأعمال. يضاف إلى ما تقدم الشراكات الكثيرة المتتالية بين الشركات والمؤسسات العربية ونظيراتها الأجنبية، ومثل هذا الشراكات تفرض استعمال لغة وسيطة تضمن تحقيق أعلى قدر من الدقة والتفاهم بين أطرافها.

بيد أن كل ما تقدّم لا يخرج اللغة العربية من المشهد الاقتصادي تمامًا، إذ إنها تحضر في الحوارات الاقتصادية الارتجالية اليومية، وكذلك في الإعلام الاقتصادي العربي المرئي والمسموع، وثمة جهات عديدة تقود جهودًا حقيقية لإثراء المحتوى الاقتصادي العربي وجعله يواكب المنجز المعرفي الاقتصادي العالمي على نحو ما تقدمه منصة هارفارد بزنس ريفيو العربية، بالإضافة إلى الجهود الفردية التي يثري من خلالها الخبراء الاقتصاديون العرب والمترجمون الحقل المعرفي الاقتصادي العربي.

هل علينا أن نعرّب؟

لا تكمن أهمية الترجمة والتعريب في حقل العلوم الاقتصادية في جعل اللغة العربية لغة التفاوض والتعليم للمشتغلين في حقل المال والأعمال فحسب، بل في كونها أداة تنمية الوعي الاقتصادي لدى أفراد المجتمع كافة، وبهذا فإن ضرورة الترجمة والتعريب مرتبطة بضرورة خلق وعي اقتصادي عميق لدى مجتمعات تتحدث العربية ويقدر عدد أفرادها بحوالي 422 مليون نسمة، وتسهم درجة وعيها الاقتصادي في تحريك مجريات الأحداث الاقتصادية.

وبهذا ينتقل السؤال عن مدى ضرورة الترجمة والتعريب إلى السؤال عن الكيفية التي يمكن من خلالها تصدير اللغة العربية في المشهد الاقتصادي العربي وجعلها أداة تواصل فعال بين الاقتصاديين العرب لا أداة تفاصل واختلاف، وبالنظر إلى ما تشهده المصطلحات الاقتصادية العربية من تعدد ونقص وغياب للدقة فإن ذلك يعود إلى غياب المرجعية المؤسسية والعلمية الموحدة التي يمكن من خلالها ضبط وتنظيم عملية ترجمة المصطلحات الاقتصادية والسعي إلى توحيد استعمالها، كذلك فإن ردم الفجوة بين المشتغلين في حقول الاقتصاد والمترجمين يؤدي إلى جعل المصطلحات العربية الاقتصادية أكثر قدرة على التعبير عن مدلولاتها وبالتالي يسهل استبدالها بنظيراتها الأجنبية في واقع الاستعمال.

إن أي فجوة في الترجمة قد تخلق فجوة في المواكبة، لذا فإن تعريب العلوم والمصطلحات الاقتصادية يمثل بوابة للانفتاح على مستجدات الاقتصاد في العالم، ووسيلة يمكن من خلالها تعزيز الوعي العربي الاقتصادي وخطوة في سبيل إنتاج معرفي عربي نوعي في مجال الاقتصاد والتقنية.

شيماء عبدالغفور

باحثة في اللغويات

شيماء عبدالغفور
شيماء عبدالغفور
باحثة في اللغويات
spot_imgspot_img